الحمد لله الذي خلق الإنسان، وأعطاه البنان، ومكنه من البيان..
وبعد:
لقد أثار تصويت مجلس الشيوخ في 18 مارس 2017 ضد مشروع مراجعة الدستور المتقدم به من طرف رئيس الجمهورية إلى المؤتمر البرلماني الجدال في أوساط أهل الاختصاص من أساتذة وفقهاء دستوريين حول الإجراءات الصحيحة التي ينبغي اتباعها في مسألة عرض مشروع المراجعة بعد أن وقف حمارها بباب الشيوخ، حيث أن الأمر شكل سابقة في التاريخ الدستوري الوطني ، وهو التاريخ الذي لا يزال في سطوره الأولى مقارنة بالتاريخ الدستوري لبلدان أخرى.
فانبرى المختصون بعد التأمل اللازم لتقديم الاستشارة، ولتوضيح ما تبنوا من اجتهادات وتفسيرات بخصوص هذه النازلة.
وإني ارتأيت أن أدلي بفهمي في هذا الموضوع، وهو فهم تعوز صاحبه إمكانات الأساتذة المتبحرين، والفقهاء المتمرسين، على أنه فهم مبني على الأسس القانونية والدستورية التي خبرت من خلال الدراسة والتأمل في هذا الموضوع الخطير، جهدت فيه تلمسا للقراءة الصحيحة للمواد المتعلقة بالموضوع، معملا القواعد الأصولية في القانون، ووسائل اللغة والمنطق، في التفسير.
وحرصت أن لا تشوبه شائبة من شوائب التخندق السياسي ـ برغم تخندقي ـ التي يمكن أن تغمز فيه.
وبسطته حتى يكون في متناول غير أهل الاختصاص.
أولا: هل نحن أمام نازلة دستورية؟
تم تعديل دستور 20 يوليو 1991 مرتين: الأولى في يونيو 2006 في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية أثناء الفترة الانتقالية التي كان الدستور فيها معطلا بعد انقلاب أغشت 2005 ، وتم ذلك عن طريق استفتاء شعبي.
أما الثانية فكانت في مارس 2012 بواسطة مؤتمر برلماني دعي له آنذاك.
والآن نواجه سابقة فريدة، حيث دعا رئيس الجمهورية إلى مؤتمر برلماني لعرض مشروع تعديلات دستورية ولم يصوت ثلاثة أخماس مجلس الشيوخ عليه فأسقط المشروع.
سياسيا، بدا أن هناك إرادة لاتخاذ طريق أخرى غير المؤتمر البرلماني، فتم اللجوء إلى الخيار الآخر الذي يسمح به الدستور حسب المادة 99 .
هنا ثار الإشكال، والجدل: هل يمكن لرئيس الجمهورية عرض التعديل الدستوري على الاستفتاء الشعبي مباشرة أم أنه ملزم بالتقيد بإجراءات المادة 99 التي تقضي بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية الوطنية وثلثي أعضاء مجلس الشيوخ؟
إذن، نحن أمام نازلة دستورية لم يسبق أن تعرض النظام الدستوري لها في موريتانيا، والاختصاصيون هم من سيحسم في أمر هذه النازلة، وهم من سيحدد بالضبط الإجراء الصحيح الذي على السلطة اتباعه حتى تنسجم مع مقتضيات الدستور (القانون الأعلى).
ثانيا: عرض الآراء:
بعد أقل من أسبوع على إسقاط مشروع مراجعة الدستور من طرف مجلس الشيوخ اتضح أن هناك رأيان:
ـ رأي يقول بإمكانية تقدم رئيس الجمهورية، في أي وقت، بمراجعة الدستور عن طريق الاستفتاء الشعبي، ويستند هذا الرأي إجمالا إلى تفسير يتأسس على المادة 38 من الدستور التي يرون أنها تجسد مبدأ السيادة الشعبية، وممارسة الشعب للسلطة، ويذهبون إلى أن هذه المادة عامة ومطلقة لا تقيدها المادة 99 من الدستور.
ـ رأي يقول بعدم إمكانية عرض أي مراجعة للدستور على الاستفتاء الشعبي إلا عبر قيود وإجراءات الباب الحادي عشر والمواد 99، 100، 101. ويستند هذا الرأي على أن هذا الباب ومواده هو الذي خصصه المشرع للمراجعات الدستورية، وأن أحكامه هي المرجع في هذا الموضوع.
ثالثا: في الرد على الرأي الأول:
بطلان أساس التفسير بالنسبة لأصحاب الرأي الأول:
يحتج أصحاب هذا الرأي بأن المادة 38 مادة عامة مطلقة تتيح لرئيس الجمهورية، في أي وقت، استشارة الشعب في كل قضية ذات أهمية وطنية انطلاقا من الأسس التي ذكرنا في العرض، ولا شك في عمومية المادةن لكنها ليست مطلقة.
ـ لا يمكن اتباع تقنيات الرد والإحالة والإرجاع في كل مواد الدستور كما يرى القائلون بهذا الرأي، وإلا تحول النص الدستوري إلى نص معقد، متداخل، ملتبس، تحيل فيه كل مادة إلى المواد المتعلقة بها، فمثلا، وبهذا المنطق، ستتضمن كل مادة في باب السلطة التنفيذية إحالات إلى أغلب مواد الدستور لعلاقتها الحيوية بالسلطتين التشريعية والقضائية.
ـ ما يرد به هؤلاء حول أهمية التبويب في الدستور غير صحيح، فقد دأب الفقه على إعطاء التبويب ما يستحق من أهمية مفسرا على ضوئه، ومستأنسا به. وبالفعل لا أحكام في الأبواب وترقيم المواد، ولكن هل يمكن فصل الماء عن الإناء؟!
ـ مثال المادة 38 لو افترضنا أنها تتعلق بمراجعة الدستور، وهو ما لا نراه واردا، هو المادة 36 التي تنص على أن رئيس الجمهورية يوقع المعاهدات ويصدق عليها، فلو قلنا بإطلاق هذه المادة ـ على غرار المادة 38 ـ فأين سنكون من المادة 78 في الباب الخامس حول المعاهدات الدولية التي تضع قيودا على هذا التوقيع والتصديق الوارد في المادة 36، ولم يحل إليها أثناء صياغة تلك القيود في المادة 78، ويمكن القياس على هاتين المادتين كثير من المواد في الدستور، بما فيها المادة موضع الجدال مع مواد الباب الحادي عشر.
ـ بنفس المنطق الذي يقول به هؤلاء أنه لم تتم إحالة أو رد أو إرجاع لهذه المادة يمكن أن يحتج به عليهم، إذ كيف يمكن أن تكون متعلقة بتعديل الدستور ولم تشر إلى ذلك مادة من مواد مراجعة الدستور الثلاث؟!
ـ العلاقة العضوية لرئيس الجمهورية بالشعب لكونه انتخبه وهي مصدر سلطته في عرض أي قضية ذات أهمية وطنية على الشعب للاستفتاء ليست حصرية، ولا تجعله غير خاضع للإجراءات والترتيبات التي يضعها المشرع لتوازن السلطات، ففي الحقيقة يعتبر البرلمان ممثلا للشعب، وله علاقة عضوية ـ هو الآخر ـ بالشعب تمكنه من سلطة تقديرية في رفض تقدير رئيس الجمهورية لعرض مشروع مراجعة على الاستفتاء.
ـ إذا قلنا بعمومية وإطلاقية المادة 38 من الدستور فسنكون أمام مأزق خطير، إذ أننا سنجعل رئيس الجمهورية متحررا ليس من القيود الإجرائية الشكلية فحسب للمواد الواردة في الباب الحادي عشر (مصادقة ثلثي أعضاء غرفتي البرلمان على مشروع التعديلات) بل سنكون أمام خطر عدم التقيد بمضمون الفقرة الثالثة من المادة 99 التي تنص على أنه: "لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالفا."
وعليه فيمكن لرئيس الجمهورية أن يتخلص من المادتين 26 و28 ببساطة!
وفي الواقع، إن القراءة الصحيحة للمادة 38 لا يمكن أن تتم بمعزل عن مواد الباب الحادي عشر من الدستور، ومواده التي ضمنها المشروع طريقة مراجعة الدستور، ولا ضرورة للإشارة في نص الدستور إلى رد هذه المادة أو إرجاعها إلى هذه المواد كما سبق وأن قلنا.
مواد الباب 11 تفسر المادة 38:
في ضوء الفراغ الموجود في العهد لجهة محددة باعتماد التفسير الدستوري في موريتانيا، حيث لا يختص المجلس الدستوري بذلك ولا أي جهة قضائية أو مؤسسة دستورية، وهي فجوة يجب أن تسد في أقرب وقت، يصبح الأمر منوطا بالاجتهاد الفقهي، وقد دأب المفسرون من أساتذة دستوريين على استخدام تقنيات علمية للتصدي لتلك المهمة، وأول ما يعملون هو التفسير اللغوي قبل التفسير المنطقي، وهنا في إشكالنا هذا لا يمكن تفسير ما ورد في المادة 38 بأنه "مراجعة دستورية" يقول نص المادة: "لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية"
هذه المادة تتيح حقا مبدئيا لرئيس الجمهورية باستشارة الشعب عن طريق الاستفتاء، وقد تم إقرار هذا الحق في معرض صلاحيات رئيس الجمهورية في الباب الثاني من الدستور "السلطة التنفيذية".
لكن مواد الباب الحادي عشر المتعلقة بمراجعة الدستور فسرت الغموض الذي يكتنف هذه المادة بخصوص دخول المراجعة الدستورية فيها، وأوضح المشرع الدستوري ـ من خلال القيود التي وضعها ـ مراده منها.
ومعلوم لدى أهل الاختصاص أن تفسير المشرع مقدم على غيره من التفسيرات القضائية والفقهية.
لم يعط الدستور في المادة 99 حق مراجعة الدستور عن طريق الاستفتاء لرئيس الجمهورية حصرا، بل أشرك معه البرلمان، ويفهم من هذا أن مقصد المشرع هو تمكين رئيس الجمهورية من استشارة الشعب فيما عدى مراجعة الدستور بإطلاقية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمراجعة الدستورية فإنه يقيده، لأن ـ ومن منظور منطقي ـ عملية المراجعة لا يمكن أن تكون مثل عرض قانون تشريعي أو نظامي.
وتجسيدا لمبدأ توازن السلطات فقد حدد لمبادرة المراجعة الدستورية جهتين: تنفيذية (رئيس الجمهورية) وتشريعية (1/3 من اعضاء إحدى الغرفتين)، وهنا يجب أن يستحضر المفسر أن فلسفة النظام الرئاسي بتقوية مؤسسة رئيس الجمهورية ليس هدفها تغولها أو شططها، بل لجعل النظام السياسي مستقرا، لا أكثر، وعليه فلا يمكن القول بإطلاقية سلطة رئيس الجمهورية في مواجهة السلطة التشريعية.
ولما كانت التعديلات المقترحة تمس جوهريا مبدأ توازن السلطات (إلغاء مجلس الشيوخ الذي لا يمكن لرئيس الجمهورية حله، إلغاء محكمة العدل السامية والعهد لمحاكم عادية بمتابعة رئيس الجمهورية) وجب على الخبراء التنبه لهذا الموضوع وعدم إطلاق تفسيرات من شأنها تقويض النظام السياسي الديمقراطي الذي يشكل توازن السلطات ركنا منيعا فيه.
إذا كانت المادة 38 تتعلق بالمراجعة الدستورية فلماذا لم ينص عليها المشرع صراحة؟
ولماذا أخر النص على المراجعة الدستورية حتى المادة 99 وما بعدها؟
أليس التفسير اللغوي أولى بالركون إليه قبل اللجوء للتفسير المنطقي؟
هل كان في خلفية المشرع تمييز لمبادرات المراجعة الدستورية الخاصة برئيس الجمهورية عن تلك التي تخص أعضاء البرلمان كما هو الحال في مبادرات القوانين التشريعية (مشروع القانون ومقترح القانون)؟
فلماذا، إذن، نص على أنه: "لا يصادق على مشروع مراجعة إلا إذا صوت عليه ثلثا (3/2) أعضاء الجمعية الوطنية وثلثا (3/2) أعضاء مجلس الشيوخ ليتسنى تقديمه للاستفتاء. المادة 99 / الفقرة 3
أليس الأولى إعمال المواد المتعلقة بمراجعة الدستور فيما يتعلق بمراجعة الدستور بدلا من إعمال مادة عامة تدخل في باب صلاحيات رئيس الجمهورية؟
أخشى أن يتحول هذا التفسير لتبرير الطغيان!
نواكشوط 26 مارس 2017