الأحد، 22 يوليو 2012

1 ـ بائعة السمك


فجرا.. تصحو، تصلي.. ثم تتجهز لرحلتها اليومية..
لا وقت يأخذه منها التجهز: بعض من "الكنكليبا"[1] تسخنه على عجل، شيئ من "الباسي"[2] تسكب عليه حليبا (في أوقات اليسر فقط).. قد تترك منه القليل لحفيدها الأثير..
تلبس ثوبا عتيقا مزركشا بألوان ما بين الرمادية إلى الخضراء الغامقة، تضع "ميسورتها"[3] تقوم بتجهيز حاوياتها، ثم تنطلق..
على الرصيف تقف منتظرة سيارة أجرة.. خيوط الصباح تهزم كل يوم أمام ناظريها حلكة الظلام.. و ما هو إلا أن تقف بقربها تاكسي مذعنة..
ـ كلينيك ؟[4]
ـ وَهَايْ (تعالي)
تضع حاوياتها في مؤخرة التاكسي ثم تلقي بالتحية على من بالتاكسي.
تسرح بعيدا و كأنها لم تعد موجودة في التاكسي بالمرة..
لا يمكن أن تخمن فيم تفكر السيدة الوقورة "اندي مام" .. يبدو على ملامحها أنها مستغرقة في تفكير عميق، و لكنها في الأغلب لا تفكر إلا في شكل السوق اليوم، و هل ستكون الأمور ميسرة اليوم أم لا؟ ما هي الأنواع المتاحة؟ "سق" أم "كيبارو" أم "لمليسه".. [5]؟؟
تنزل من التاكسي.. تتوجه إلى كراج البحر، تستقل سيارة أخرى.. إلى سوق البحر..
ترى أي الأسواق ستتزود منه بسرعة، لأن رحلة العودة ستأخذ وقتا أيضا، و يجب أن تصل البضاعة للزبناء في وقت مبكر.. و إلا فإن كل شيء سيكون بلا معنى..
في سوق الصين الأقرب للقادم من جهتها تتوقف لتراقب أي أنواع "كيبارو" سوف تتزود منها، يبدو اليوم من الأيام الصعبة، حيث تقل الخيارات، و ترتفع الأسعار..
  "يلل باخنه" ![6] تسترجع "اندي مام" ذكريات مختلطة بالألم و الجمال في طريق العودة، تتذكر أيام كان ابنها الوحيد "مالبير" على قيد الحياة حيث كان يملك قاربا و كان يوفر لها كل أنواع السمك الذي تريد: "تيوف" الذي أصبح الأجانب يحتكرونه و يلقون للسوق المحلية بالفضلات منه فقط.. "كربين" كذلك..
كانت أياما..

و "مالبير" الذي يضج بالحيوية يغادر المنزل في ساعات قبيل الفجر، و يطل عليها التاسعة صباحا في السوق المحلية محملا بنفائس السمك، و تجلس "اندي مام" كالسلطانة لتبيع بأريحية و سخاء..
لم تعد السوق مثلما كانت منذ عشرين سنة ! ضاقت رغم اتساعها، قلت الفرص فيها رغم تطور الناس، صارت الكميات التي تبيع أضعافا مضاعفة، و لكن الأرباح تضاءلت كقارب صيد مبتعد عن الشاطئ في أعماق المحيط... و ربما تختفي نهائيا كما اختفى قارب "مالبير" و معه ثلاثة شبان..
كانت مأساة و مناحة.. و من يومها صارت "اندي مام" كل فجر تتجهز و تذهب إلى سوق السمك و كأنها ستلتقي حبيب قلبها و وحيدها "مالبير".. تلقي نظرة على المحيط قبل أن تفعل أي شيء آخر.. ثم لا تفوت الفرصة لتختلس النظر إلى أمواجه بغضب و عتاب بين الفينة و الأخرى..
لا شيء يعوض الأبناء.. غير الأحفاد.. تفكر في حفيدها الأثير "مالبير بونضو[7]"..
أمه "راكي" لم يهدها الله إلا بعد وفاة شقيقها، فعادت إلى أسرتها بعد أن انحرفت عن طريق العائلة طويلا، و عاشت أياما من الانحلال و الحشيش..
لا تزال "اندي مام" تشعر بلمسة ولدها لها عندما قام بإسنادها بعد أن دفعتها "راكي" المجنونة على إثر خصومة بينهن.. يومها أقسم "مالبير" أنه سيقتل "راكي" بعد جرمها الشنيع.. و كأي أم بذلت "اندي مام" جهدا خرافيا لرأب الصدع و تهدئة "مالبير" بالقسم عليه أن لا يتعرض لأخته، و أخذت منه العهود و المواثيق..
و قبلت الأم المكسورة الجناح بقرار طرد البنت المجنونة من البيت.. لكن عزائها الوحيد كان في وجود ابن صالح و بنات أخر منهن من تزوج و ذهب للعيش مع أزواجهن مثل "بنتا" و "مام نجاي" و أخر صغيرات لا يزلن كـ "كوينو" و "فاتو"..
تصل التاسعة و النصف تماما إلى السوق المحلية، و بمجرد أن تلمحها ابنتها "كوينو" تصيح في إحدى الزبائن:
ـ ها هي "اندي مام".. انتظري ..
ـ ضعي "الياي بوي"[8] في الطاحونة يا ابنتي.. تقول "اندي مام" ثم تغسل يديها و تضع قفازاتها، و تأخذ عدة نزع القشور بعد أن عرضت سمكات اليوم..
ـ ألا يمكنني أن أجد بيض السمك عنك؟ تتساءل زبونة.
ـ هههه.. يا منتي انتي اتلودي لشي مالو لعد!
لم يعد الأجانب يتركون لنا أي شيء من هذا البحر.. تجيب "اندي مام" بمرارة.
 تسرح بعيدا باتجاه البحر.. و تأخذ نفسا عميقا كأنما تشتم رائحة ابنها..
تبتسم لوهلة.. ثم تتابع في جد تقشير سمكة صغيرة بين يديها..












[1]  عشب يستخدمه إخواننا الزنوج مثل استخدام الشاي.
[2]  الباسي دقيق من الحبوب كالقمح او الذرة يشكل على شكل حبيبات صغيرة جدا.
[3]  نطاق تضعه سيدات المجتمع الزنجي على رؤوسهن
[4]  ملتقى طرق في قلب العاصمة نواكشوط
[5]  تسميات محلية لأنواع من الأسماك
[6]  عبارة من الولفية إحدى اللغات الوطنية، تعني: الله كريم.
[7]  بونضو: معناها صغير بالولفية.
[8]  نوع من السمك يلجأ له الضعفاء.

هناك تعليق واحد: