الثلاثاء، 29 يوليو 2014

نديونه

في بلد النسيان هذا ينسى الإنسان كل شيء إلا لحظته التي هو فيها، حاجته التي يود إتيانها..
ينسى العالم مقامه فيصطف على موائد السلطان مع المنافقين وشذاذ الآفاق..
ينسى الطبيب تعاليمه فيخون قسمه بشتى أنواع الخيانة..
ينسى المدرس مهمته النبيلة فيندس بين جموع الوصوليين، ويجمع دريهمات بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة..
وينسى القانوني كل القواعد ويخرقها في بهيمية..
وينسى الشيخ المسن من هو ويتصيد الفتيات القاصرات للزواج أو المغازلة، لا فرق..
وينسى الأكاديمي من هو ويُلفى في بيت مومس تاركا رزانته وزوجته خلف ظهره..
وينسى السياسي موقفه البارحة ليناقضه في الصباح ثم يعود إلى تبنيه في الظهيرة..
وينسى المواطن من هو ويقبل بكل رضوخ ظلمه من طرف السلطة ..
هنا..
ينسى الإنسان كل متعلقات الإنسانية، ويتلبس بالوحشية..
هنا..
تنسى الدولة أبناءها المبدعين:
تنسى من اختزنت ذاكرته كل المآسي البشرية على مر العصور الناتجة عن الاستغلال..
حسين حيدره الفنان التشكيلي الذي يكدح، لا يكاد يجد قوت يومه..
أول ما يلفتك إليه شكله: لونه الأسمر المكتسب من والدته المالية، نحافته الزائدة وكأنه أجهده حمل ذكريات الحروب والعنف البشري (أحد ثيماته الرئيسية)، طوله الفارع نسبيا وكأنه أحد المردة مسترقي السمع من السماء.. فعلا، من يشاهد لوحاته وينصت لتعليقاته يدرك أنه على اتصال وثيق بوحي السماء، ورغم ذلك فمادة لوحاته أرضية: عظام الأغنام والإبل والأسماك، الأعشاب، والقرون...إلخ.
يشع من عينية بريق محير إلا لمن يعتبره مجنونا من أصدقائه ومعارفه وينتقد جمعه للعظام والأعشاب والخرق.. "يعتبرونني مسكونا أو مجنونا" يعلق حيدره باسما!!
وهل عباقرة أي مجتمع إلا "مجانينه"؟.
بريق عينيه قوي،مع أن به رعبا كبيرا، وكأنه يقول لنا بصمت: إنني أبصر بعيدا.. إنني أرى ما لا ترون..

فما الذي يراه حيدره ويريدنا ان نراه معه؟
إنها نشرات أخبار المساء حيث يقدم ملخص يومي عن عنف البشر، يكرر نفس الخبر منذ البدء: قتل، دمار، تشريد، والضحايا هم دائما أولئك الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وحتى الجنود هم كذلك أبرياء لأنهم وعدوا بالمجد أو الخلود أو الجنة وانخرطوا في الحروب والصراعات دون أن تكون لهم مصلحة في أهداف هذه الحرب او ذلك الصراع، هم ضحايا استغلال شياطين الحروب، مسعري نارها، والرابحون دوما.
ــ جميل.. أنت تريدنا ان نلتفت إلى ضحايا الحروب؟
ــ ليس هذا فقط، فمن خلال اللوحات التي تذكر بجثث متعفنة، أو مقابر جماعية أريدكم أن تتوقفوا قليلا وتسألوا أنفسكم: ما الذي يحمل الإنسان على إلحاق الضرر بالآخر؟
هذا السؤال يعيدنا إلى البدايات لنتذكر ونتأمل..
إذن: لا جِدَّةَ في نشرات الأخبار..!!
ونحن من كنا نظن أننا باستماعنا لها، أو مشاهدتها نكتشف جديدا..!!
هي نفس التجربة، مكررة، متجلية من جديد..

يا لغبائنا..!!
مجازر آشور بني بعل في العراق هي مجازر بول بوت في كمبوديا..
قسوة الولايات المتحدة في هيروشيما ونجازاكي هي نفسها قسوة الاسكندر المقدوني في غواغاميلا..
عنف أغريبا الروماني في معركة أكسيوم هو نفسه عنف باتون في أبرديين..
والإبادة في رواندا بين الهوتو والتوتسي لا تختلف عن تلك التي وقعت في بغداد على يد المغول، او التي نحدث حاليا في غزة على أيدي إسرائيل..
لا جديد، ولا متعة في نشرات الأخبار، بل إن تكرار نفس الوقائع فيها يجعلنا نتجاوز حد التأثر بها..!!
لوحات حسين حيدره دعوة صريحة لتذكر مليارات الضحايا: ضحايا الحروب المقدسة باسم الدين أو العرق أو حب السيطرة، ضحايا الاستغلال الذين تذهب أسماؤهم وتبقى أسماء المستغلين.
يدعونا حيدره إلى التوقف وتحمل مسئوليتنا عن هذا العنف.
وأدعوكم جميعا إلى التوقف وتذكر هذا الإسم المبدع الذي تهمله الدولة الموريتانية، ويتجاهله المجتمع.
(الصور من جلسة لـ ملتقى 21 أغسطس/ آب بمناسبة معرض أقامه الفنان في Zeinart concept )

عيدكم سعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق